تفسير سورة: الطارق
1- {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
• نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتْحَفَهُ (أهدى إليه) بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جالس يأكل إذا انْحَطَّ (سقط) نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَجِبَ أَبُو طَالِبٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ».
• (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ): وَهَذَا قَسَمٌ من الله بالسماء وما يطرق فيها من الكواكب والنجوم النيرة.
• (وَالطَّارِقُ): النَّجْمُ يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ، ويختفي بالنهار.
– وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ.
2- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}
• (وَمَا أَدْرَاكَ): وما أعلمك يا «محمد».
ï يقول تعالى ذكره لنبيه «محمد» صلى الله عليه وسلم وما أشعرك يا «محمد» ما الطارق الذي أقسمتُ به، ثم بين ذلك جلّ ثناؤه، فقال: هو النجم الثاقب.
3– {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}
• (النَّجْمُ): الثُّريا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ النَّجْمُ. وهو يشمل سائر النجوم الثواقب.
• (الثَّاقِبُ): ثقوبه: ضوءه.
– الْمُضِيءُ، والْمُنِيرُ، والْمُتَوَهِّجُ، الذي يثقب نوره، فيخرق السماوات فينفذ حتى يُرى في الأرض.
– وَقِيلَ: هُوَ زُحَلُ، الذي يَخرق السماوات السبع، وينفذ فيها، فيرى منها وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ. تَقُولُ الْعَرَبُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا: قَدْ ثَقَبَ.
4- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}:
– يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها.
– إن كلّ نفس لعليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها، ويُحصي عليها ما تكسب من خير أو شرّ.
– قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ يَحْفَظُهَا وَيَحْفَظُ قَوْلَهَا وَفِعْلَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَادِيرِ، ثُمَّ يُخَلِّي عَنْهَا.
– أَيْ كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ يَحْرُسُهَا مِنَ الْآفَاتِ.
5- {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}
• (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ):
– فلينظر الإنسان المكذّب بالبعث بعد الممات، المُنكر قُدرة الله على إحيائه بعد مماته.
– أَيْ فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ.
• (مِمَّ خُلِقَ):
– أَيْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ رَبُّهُ،
– أي: فليتدبر خلقته ومبدأه.
ï تَنْبِيهٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِ أَصْلِهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}.
6- {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ}
– يَعْنِي الْمَنِيُّ يَخْرُجُ دَفْقًا مِنَ الرَّجُلِ وَمِنَ الْمَرْأَةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
– مِنْ مَاءٍ مَدْفُوقٍ أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ.
7- {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}
• (الصُّلْبِ): يَعْنِي صُلْبَ الرَّجُلِ.
• (وَالتَّرَائِبِ): يَعْنِي َتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ.
– وَالترائب جمع التربية، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ.
– قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ.
– وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين والصدر.
– وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان.
– وقال آخرون: هي الأضلاع التي أسفل الصلب.
– وقال آخرون: هي عصارة القلب.
– وقال الثوري: فوق الثديين
ï وقال ابن عباس: صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ أَصْفَرَ رَقِيقٍ لَا يكون الولد إلاّ منهما.
8- {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
– علَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لَقَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
– إِنَّهُ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أَيْ إِعَادَتُهُ وَبَعْثُهُ إِلَى الدار الآخرة لقادر.
– إن هذا الذي خلقكم أيها الناس من هذا الماء الدافق، فجعلكم بشرًا سويًا، بعد أن كنتم ماءً مدفوقًا، على رجعه لقادر.
– (عَلَى رَجْعِهِ) على ما هي عائدةٌ، فقال بعضهم: هي عائدة على الماء. وقالوا: معنى الكلام: إن الله على ردّ النطفة في الموضع التي خرجت منه (لَقَادِرٌ).
– عَلَى رَدِّ النُّطْفَةِ فِي الْإِحْلِيلِ.
– وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ لِقَادِرٌ.
– وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنْ شَاءَ رَدَّهُ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ.
– وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِقَادِرٌ حَتَّى لَا يَخْرُجَ.
– وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ وَإِعَادَتِهِ.
9- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
• (يَوْمَ): وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
• (تُبْلَى): تُظْهَرُ.
• (السَّرَائِرُ): الْخَفَايَا.
– قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ، كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ، وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ.
– قَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِيَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ سِرٍّ، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ. يَعْنِي: مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ.
• (تُبْلَى السَّرَائِرُ)
– تُخْتَبَرُ الْأَعْمَالُ.
– تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه، وَيَبْقَى السِّرُّ علانية والمكنون مشهورًا.
10- {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}
• (فماله): أَيِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
• (مِنْ قُوَّةٍ): القوّة: العشيرة.
– فما له من قوّة يمتنع بها، يدفع بها عن نفسه.
• (وَلَا نَاصِرٍ): أَيْ مِنْ خَارِجٍ مِنْهُ.
أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهُ أحد ذلك.
– (والناصر): الحليف
– ولا ناصر ينصره من الله.
ï أَيْ مَا لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ مِنْ قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا نَاصِرَ يَنْصُرُهُ مِنَ اللَّهِ.
11- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}
– أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ كُلَّ عَامٍ وَيَتَكَرَّرُ.
– وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّحَابُ يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ.
– ترْجع بالغيوم وأرزاق العباد كلّ عام.
– شمسها وقمرها يغيب ويطلُع.
12- {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}
– تَتَصَدَّعُ وَتَنَشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ فيعيش بذلك الآدميون والبهائم.
13- {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}
• (إِنَّه): القرآن
• ( لَقَوْلٌ فَصْلٌ): حق، وصدق، وبين، وواضح، وحُكْمٌ، وعَدْلٌ، وَجِدٌ.
– لقول يفصل بين الحقّ والباطل ببيانه.
14- {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}
– وما هو باللعب ولا الباطل.
– جد حق، ليس بالهزل.
15- {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا}
• (إِنَّهُمْ): المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن.
• (يَكِيدُونَ كَيْدًا): يَخَافُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُظْهِرُونَ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ.
– ليدفعوا بكيدهم الحق، ويؤيدوا الباطل.
ï إن هؤلاء المكذّبين بالله ورسوله والوعد والوعيد يمكرون مكرًا.
ï يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ، فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ.
16- {وَأَكِيدُ كَيْدًا}
– وأمكر مكرًا؛ ومكره جلّ ثناؤه بهم: إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به.
– وَأَكِيدُ كَيْدًا لإظهار الحق، ولو كره الكافرون، ولدفع ما جاءوا به من الباطل، ويعلم بهذا من الغالب، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيد.
– وَكَيْدُ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُ إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
17- {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا }
– قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} قَلِيلًا وَمَعْنَى مَهِّلْ وَأَمْهِلْ: أَنْظِرْ وَلَا تَعْجَلْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُسِخَ الْإِمْهَالُ بِآيَةِ السَّيْفِ.
– أي: قليلا فسيعلمون عاقبة أمرهم، حين ينزل بهم العقاب.
– أمهلهم آنًا قليلا وأنظرهم للموعد الذي هو وقت حلول النقمة بهم.
– مَهِّلْهم، فلا تعجل عليهم تَرْكَهُمْ، حتى لمَّا أراد الانتصار منهم أمره بجهادهم وقتالهم، والغلظة عليهم.
– أَيْ أَنْظِرْهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، قليلاً وسترى مَاذَا أُحِلَّ بِهِمْ، مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْعُقُوبَةِ والهلاك.