تفسير سورة: المطففين

تفسير سورة: المطففين

1- {وَيْلٌ للمطفِّفين}:
• (وَيْلٌ): كلمة عذاب، ووعيد. أو وادٍ في جهنم.
– الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يُطَففون.
• (للمطفِّفين): والمراد بالتطفيف ههنا: الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقتضى من الناس، وإما النقصان إِنْ قَضَاهُمُ.
قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ: مُطَفِّفٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ.
– قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو جُهَيْنَةَ وَمَعَهُ صَاعَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

2- {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}:
• (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ): إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ: أَيْ أَخَذُوا مِنْهُمُ.
• (يَسْتَوْفُونَ): اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ. أَيْ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ.
الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفَوْا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

3- {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}:
• (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ): أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ: أَيْ لِلنَّاسُ
• (يُخْسِرُونَ): أَيْ يَنْقِصُونَ. إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك.

4- {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ}:
• (أَلا يَظُنُّ): ما يَخَافُ أُولَئِكَ.
يَسْتَيْقِنُ.
• (أُولَئِكَ): الَّذِينَ يقومون بالتطفيف.
• (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ): أنيقومون بين يدي الله، يحاسبهم على القليل والكثير.
ï ما يَخَافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ.
5- {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}:
يوم القيامة.
يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ، كَثِيرِ الْفَزَعِ، جَلِيلِ الْخَطْبِ، هائل أمره.

6- {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}:
• (يَقُومُ النَّاسُ): مِنْ قُبُورِهِمْ.
• (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ): أَيْ لِأَمْرِهِ وَلِجَزَائِهِ وَلِحِسَابِهِ.
ï يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
ï إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عامًا، شاخصةً أبصارهم إلى السماء، حُفاة عراة يلجمهم العرق، ولا يكلّمهم بشر أربعين عامًا.
ï يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كإحدى صلاته المكتوبة.
ï قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قدر مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ – قَالَ – فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يأخذه إلجاماً».

7- {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}:
• (كَلَّا): رَدْعٌ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلْيَرْتَدِعُوا.
ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا.
• (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ): الَّذِي كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ.
• (لَفِي سِجِّينٍ): هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى فِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ.
لَفِي خَسَارٍ، وَضَلَالٍ، وحَبْسٍ، وَضِيقٍ شَدِيدٍ.
وفِعِيلٍ مِنَ السجن وهو الضيق كما يقال: فسّيق، وَخِمِّيرٌ، وَسِكِّيرٌ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَجِّينٌ» أَسْفَلَ سَبْعِ أَرْضِينَ، وَ«عِلِّيُّونَ» فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ.
إِنْ رُوحَ الْفَاجِرِ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَتَأْبَى السَّمَاءُ أَنْ تَقْبَلَهَا ثُمَّ يُهْبَطُ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَتَأْبَى الأرض أن تقبلها فَتَدْخُلُ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ جُنْدِ إِبْلِيسَ، فَيَخْرُجُ لَهَا مِنْ سِجِّينٍ رَقٌّ، فَيُرْقَمُ وَيُخْتَمُ، وَيُوضَعُ تَحْتَ جُنْدِ إِبْلِيسَ، لِمَعْرِفَتِهَا الْهَلَاكَ بِحِسَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
هِيَ الْأَرْضُ السُّفْلَى، وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ.
هِيَ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى خَضْرَاءُ، خُضْرَةُ السَّمَاوَاتِ مِنْهَا يُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ فِيهَا.

8- {ومَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}:
• (مَا أَدْرَاكَ): أَيْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
• (سِجِّينٌ): سِجِّينًا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجْنِ وَهُوَ الضِّيقُ.
وقيل: بئر في جهنم.
وَهُوَ مكان يَجْمَعُ الضِّيقَ وَالسُّفُولَ.
ï وأيّ شيء أدراك يا محمد، أيّ شيء ذلك الكتاب.
ï أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ.

9- {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}:
لَيْسَ هَذَا تَفْسِيرُ السَّجِينِ، بَلْ هُوَ بَيَانُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ».
كتاب مذكور فيه أعمال الكفار الخبيثة.
هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، أَيْ مَكْتُوبٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ مُثْبَتَةٌ عَلَيْهِمْ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، لَا يُنْسَى وَلَا يُمْحَى حَتَّى يُجَازَوْا بِهِ.
رُقِمَ عَلَيْهِ بِشُرَكَائِهِ كَأَنَّهُ أُعْلِمَ بِعَلَامَةٍ يُعْرَفَ بِهَا أَنَّهُ كَافِرٌ. وَقِيلَ: مَخْتُومٌ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ.
مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ ولا يتقص منه أحد.

10- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}:
• (وَيْلٌ): لهم والمراد مِنْ ذَلِكَ: الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لفلان.
• (يَوْمَئِذٍ): يوم القيامة.
• (لِّلْمُكَذِّبِينَ): الذين يكذبون بيوم الحساب والمجازاة.
أهل الشرك يكذّبون بالدين.

11- {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}:
الذين يكذبون بيوم الحساب والمجازاة.
أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ.
• (يَوْمِ الدِّينِ): يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم.

12- {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}:
• (كُلُّ مُعْتَدٍ): أَيْ كل مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ، وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ.
اعتدى على الله في قوله، فخالف أمره.
مُعْتَدٍ على محارم الله، متعد من الحلال إلى الحرام.
• (وَالْأَثِيمِ): فِي أَقْوَالِهِ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أخلف، وإن خَاصم فَجر.
أي كثير الإثم، فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب، ويوجب له كبره رد الحق.

13- {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}:
• ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا): إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا الدالة على الحق، و على صدق ما جاءت به رسله، كذبها وعاندها.
إذا قُرئ عليه حججنا وأدلتنا التي بيَّنَاها في كتابنا الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم
• (قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ): أي: من ترهات المتقدمين، وأخبار الأمم الغابرين، ليس من عند الله تكبرًا وعنادًا.
قال: هذا ما سطَّره الأوّلون فكتبوه، من الأحاديث والأخبار.

14- {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}:
• ( كَلَاّ): ما ذلك كذلك، ولكنه.
• (ران): إِنَّ العبد إذا أخطأ نكت في قلبه نكتة سوداء، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فهو الرَّانُ.
غلب على قلوبهم وغَمَرها وأحاطت بها الذنوب فغطتها.
هو الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ فَيَمُوتُ.
الخطايا حتى غمرته.

15- {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}:
• (يَوْمَئِذٍ): يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
• (لَّمَحْجُوبُونَ) مَمْنُوعُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ، وكرامته، ورحمته.
أَلَّا يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيَهُمْ.
كَمَا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِه.
من ران على قلبه كسبه، وغطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق، ولهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن الله، كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات الله.
16- {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ}:
أَيْ ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ، مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ.

17- {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}:
• (ثُمَّ يُقَالُ): أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ.
• (هَذَا): أَيْ هَذَا الْعَذَابُ.
• (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، والتصغير والتحقير.
ï ثم يقال لهؤلاء المكذّبين بيوم الدين: هذا العذاب الذي أنتم فيه اليوم، هو العذاب الذي كنتم في الدنيا تخبرون أنكم ذائقوه، فتكذّبون به، وتنكرونه، فذوقوه الآن، فقد صَلَيْتُم به.

18- {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}:
• (كَلا): حَقًّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ – وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ.
• (الأبْرَارِ): جمع برّ، وهم الذين برّوا الله بأداء فرائضه، واجتناب محارمه.
هم الذين لا يؤذون شيئًا حتى الذَّرّ.
• (لَفِي عِلِّيِّينَ): هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين.
وقال آخرون: بل العِليُّون: قائمة العرش اليمنى.
وقال آخرون: بل عُنِي بالعليين: الجَنَّة.
وقال آخرون: عند سِدْرَةِ المنتهى.
إن الروح المؤمنة إذا قُبِضت، صُعد بها، فَفُتحت لها أبواب السماء، وتلقَّتها الملائكة بالبُشرَى، ثم عَرَجُوا معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لها من عند العرش فيُرقَم رَقّ، ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة، وتشهد الملائكة المقرّبون.

19- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}:
– وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما عليون.

20- {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} 21- {يَشْهَدُهُ المقربون}:
• (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ): أي مكتوب بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة، والفوز بالجنة.
• (يَشْهَدُهُ المقربون): وهم الملائكة.
يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا.
يشهد ذلك الكتاب المكتوب بأمان الله للبَرّ من عباده من النار، وفوزه بالجنة، المقرّبون من ملائكته من كلّ سماء من السموات السبع.

22- {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}:
• (الْأَبْرَارَ): الأبرار الذين بَرّوا باتقاء الله وأداء فرائضه،
(لفي نَعِيمٍ): وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن.
لفي نعيم دائم، لا يزول يوم القيامة، وذلك نعيمهم في الجنان.
أيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ، وجنات فيها فضل عميم.

23- {على الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}:
• (وعلى الْأَرَائِكِ): هِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَال من اللؤلؤ والياقوت.
• (يَنظُرُونَ): يَنْظُرُونَ فِي مُلْكِهِمْ، وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، والكرامة والنعيم، والحَبْرة في الجنان، وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ.
ينظرون إِلَى وجه الله عزَّ وجلَّ الكريم، وإلى ما أعد الله لهم من النعيم.
فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يرى أدناه وإن أعلاهم لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي اليوم مرتين».
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ.

24- {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}:
• (تَعْرِفُ): أَيْ تَعْرِفُ أيها الناظر إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ.
• (فِي وُجُوهِهِمْ): في وجوه الأبرار.
• (نَضْرَةَ النَّعِيمِ): بهاء النعيم، ونضارته، ورونقه، وحُسنه،  وبريقه، وتلألؤه؛ فإن توالي اللذة والسرور يُكسب الوجه نورًا وحُسنًا وبَهْجَة.
ï إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ مِمَّا تَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ، قَالَ الْحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الْوَجْهِ وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ.

25- {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ}:
• (يُسْقَوْنَ): هؤلاء الأبرار.
• (مِن رَّحِيقٍ): مِنْ خَمْرٍ صرف مِنَ الْجَنَّةِ صَافِيَةٍ طَيِّبَةٍ لا غشّ فيها. وَالرَّحِيقُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَمْرُ الْبَيْضَاءُ.
• (مَخْتُومٌ): خُتِمَ وَمُنِعَ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: “مَخْتُومٌ” أَيْ مُطَيَّنٌ.
أي مختوم على إنائها.

26- {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}:
• (خِتَامُهُ): أَيْ طِينُهُ مسك.
وقيل: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إلاّ وجد طيبها.
طيبه مسك.
خلطه مسك.
آخر شرابهم يُخْتم بمسك يجعل فيه.
• (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ): وفي هذا النعيم الذي وصف جل ثناؤه أنه أعطى هؤلاء الأبرار في القيامة، فليتنافس المتنافسون. والتنافس: أن يَنفِس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، وتطلبه وتشتهيه، وكان معناه في ذلك. فليجدّ الناس فيه، وإليه فليستبقوا في طلبه، ولتحرص عليه نفوسهم.
فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ».

27- {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}:
• (وَمِزَاجُهُ): شراب َيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
مزاج هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ.
• (مِنْ تَسْنِيمٍ): شُرْابٌ يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عُلْوٍ فِي غُرَفِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وهو َأشْرَفُ شَرَابِ أهل الجنة وأعلاه.
– وَقِيلَ: يَجْرِي فِي الْهَوَاءِ مُتَسَنَّمًا فَيَنْصَبُّ فِي أَوَانِي أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ مِلْئِهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ أَمْسَكَ.

28- {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}:
• (عَيْناً): وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين.
• (يَشْرَبُ بِهَا): عَيْناً يَشْرَبُ منها.
• (الْمُقَرَّبُونَ): الذين هم أعلى الخلق منزلة في الجنة.
– هو عين يمزج بها الرحيق لأصحاب اليمين، وأما المقرّبون، فيشربونها صِرْفًا.

29- {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}:
• (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا): أَشْرَكُوا. يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، وَأَصْحَابَهُمْ مِنْ مُتْرَفِي مَكَّةَ.
• (كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا): عَمَّارٍ، وَخِبَابٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
• (يَضْحَكُونَ): يستهزؤون.
ï أن المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين، ويستهزئون بهم، ويضحكون منهم.
ï إن الذين اكتسبوا المآثم، فكفروا بالله في الدنيا، كانوا فيها من الذين أقرّوا بوحدانية الله، وصدّقوا به (يضحكون)، استهزاء منهم بهم.

30- {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}:
• (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ): إذا مَرَّ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ.
• (يَتَغَامَزُونَ): وَالْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ، أَيْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً.
يتغامزون بهم عند مرورهم عليهم، احتقارًا لهم وازدراءً، ومع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم.

31- {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}:
• (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا): أَيْ رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ الكفار إِلَى مَنَازِلِهِمُ صباحًا أو مساءً.
• (فَكِهِينَ): مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِهِمْ، مسرورين مغتبطين.
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يفرق بين معنى فاكهين وفكهين، فيقول: معنى فاكهين: ناعمين، وفكهين: مَرِحين. وكان غيره يقول: ذلك بمعنى واحد، وإنما هو بمنزلة طامع وطَمِع، وباخل وبخل.

وهذا من أعظم ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة والأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله وعهد، أنهم من أهل السعادة، وقد حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى، وأن المؤمنين ضالون.

32- {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}:
• (وَإِذَا رَأَوْهُمْ): إذَا رأىَ الكفار أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
• (قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ): قالوا إن هَؤُلَاءِ المؤمنين ضَالون، افتراءً على الله، وتجرأوا القول عليه بلا علم.
أَيْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ.
ï وإذا رأى المجرمون المؤمنين قالوا لهم: إن هؤلاء لضالون عن محجة الحقّ، وسبيل القصد.

33– {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}:
أَيْ: وَمَا بُعِثَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ، حافظين على هؤلاء المؤمنين، ما يصدر عنهم مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ، فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ؟ كَمَا قَالَ تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}.
وما بعث هؤلاء الكفار القائلون للمؤمنين (إن هؤلاء لضالون) حافظين عليهم أعمالهم. يقول: إنما كُلِّفوا الإيمان بالله، والعمل بطاعته، ولم يُجعلوا رُقباء على غيرهم يحفظون عليهم أعمالهم ويتفقدونه.

34- {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}:
• (فَالْيَوْمَ): وذلك يوم القيامة.
• (الَّذِينَ آمَنُوا): بالله في الدنيا.
• (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ): وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفْتَحُ لِلْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَبْوَابُهَا، وَيُقَالُ لَهُمُ: اخْرُجُوا، فَإِذَا رَأَوْهَا مَفْتُوحَةً أَقْبَلُوا إِلَيْهَا لِيَخْرُجُوا، وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِرَارًا وَالْمُؤْمِنُونَ يَضْحَكُونَ.
بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى(ثقوب أو فتحات صغيرة)، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ لَهُ، كَانَ فِي الدُّنْيَا، اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْكُوَى، كَمَا قَالَ: «فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ» فَإِذَا اطَّلَعُوا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ضَحِكُوا.
كان ابن عباس يقول: السور الذي  بين أهل الجنة والنار، فيفتح فيه لأهل الجنة أبواب، فينظرون وهم على السُّرر إلى أهل النار كيف يعذّبون، فيضحكون منهم، ويكون ذلك مما أقرّ الله به أعينهم، كيف ينتقم الله منهم.
يُجاء بالكفار حتى ينظروا إلى أهل الجنة في الجنة، على سرر، فحين ينظرون إليهم تغلق دونهم الأبواب، ويضحك أهل الجنة منهم.
35- {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}:
• (عَلَى الْأَرَائِكِ): وهي السرر المزينة، مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ.
– قال ابن عباس: السُّرر المرفوعة عليها الحِجال(الستائر).
• (يَنْظُرُونَ): يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ.
ينظرون إلى الكفار فِي النَّارِ.
يُنْظَرُونَ إلى ما أعد الله لهم من النعيم.

36- {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}:
• (هَلْ ثُوِّبَ): هَلْ جُوزِيَ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هَاهُنَا: التَّقْرِيرُ.
فعل من الثواب والجزاء، يقال منه: ثوّب فلان فلانًا على صنيعه، وأثابه منه
هل جوزوا من جنس عملهم؟
فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، ورأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال.
أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ به المؤمنين، من الاستهزاء والسخرية أَمْ لَا، يَعْنِي قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وأتمه وأكمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *